الملمح الخامس للمشتاق للجنان
ومن الناس .. من يستقيم زماناً على الطاعات .. ويأنس برب الأرض والسموات ..
يتلذذ بمناجاته .. ويحي قلبه بمحبته .. وتأنس نفسه بمعرفته ..
لكنه يرى أهل المعاصي والشهوات .. فيشتاق أن يجرب عيشهم .. ويتمتعَ متعهم .. يظن أنهم سعداء .. فلا يلبث أن يتبين له الكربُ والبلاء ..
ذكر ابن الجوزي في كتابه المنتظم أن المسلمين غزو حصناً من حصون الروم..وكان حصناً منيعاً..فحاصروه وأطالوا الحصار وتمنع عليهم..
وأثناء حصارهم أطلت امرأة من نساء الروم فرآها رجل من المسلمين اسمه ابن عبد الرحيم ..
فأعجبته .. وتعلق قلبه بها .. فراسلها : كيف السبيل إليك ؟
فقالت : أن تتنصر .. وتصعد إليَّ ..
فتنصّر وتسلل إليها ..
مسكين ظن أن السعادة في امرأة ينكحها .. وخمر يشربها ..
فلما فقده المسلمون اغتموا لذلك غماً شديداً ..
ثم طالت بهم الأيام ولم يستطيعوا فتح الحصن فذهبوا ..
فلما كان بعد مدة مرّ فريق منهم بالحصن فتذاكروا ابن عبد الرحيم .. فتساءلوا عنه .. وعلى أي حال هو الآن ؟! ..
فنادوا باسمه : يا ابن عبد الرحيم .. فأطلَّ عليهم ..
فقالوا : قد حصلت ما تريد .. فأين قرآنك وعلمك ؟ ما فعلت صلاتك ؟
فقال : لقد أنسيت القرآن كله .. ولا أذكر منه إلا آية واحدة .. قوله تعالى : { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } ..
قال الله : { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون } ..
* * * * * * * *
هذا خبر ابن عبد الرحيم .. أغري بفتنة النساء .. فأشرك برب الأرض والسماء ..
وقد يغرى المرء بالمال .. فيكفر بالكريم المتعال ..
وانظر إلى الأعشى بن قيس ..
فكان شيخاً كبيراً شاعراً .. خرج من اليمامة .. من نجد .. يريد النبي عليه الصلاة والسلام .. راغباً في دخول الإسلام ..
مضى على راحلته .. مشتاقاً للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .. بل كان يسير وهو يردد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً :
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا * وبت كما بات السليمُ مسهدا
ألا أيهذا السائلي أين يممت * فإن لها في أهل يثرب موعدا
وآليت لا آوي لها من كلالة * ولا من حَفىً حتى تلاقي محمدا
نبي يرى ما لا ترون وذكرُه * أغار لعمري في البلاد وأنجدا
أجدِّك لم تسمع وصاة محمد * نبيِّ الإله حيث أوصى وأشهدا
إذ أنت لم ترحل بزاد من التقى * ولا قيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله * فترصد للأمر الذي كان أرصدا
وما زال يقطع الفيافي والقفار..يحمله الشوق والغرام .. إلى النبي عليه السلام ..
راغباً في الإسلام .. ونبذ عبادة الأصنام ..
فلما كان قريباً من المدينة..اعترضه بعض المشركين فسألهوه عن أمره؟
فأخبرهم أنه جاء يريد لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم .. فخافوا أن يسلم هذا الشاعر .. فيقوى شأن النبي صلى الله عليه وسلم .. فشاعر واحد وهو حسان بن ثابت قد فعل بهم الأفاعيل .. فكيف لو أسلم شاعر العرب الأعشى بن قيس ..
فقالوا له : يا أعشى دينك ودين آبائك خير لك ..
قال : بل دينه خير وأقوم ..
قالوا : يا أعشى .. إنه يحرم الزنا .. قال : أنا شيخ كبير .. وما لي في النساء حاجة ..
فقالوا : إنه يحرم الخمر ..
فقال : إنها مذهبة للعقل .. مذلة للرجل .. ولا حاجة لي بها ..
فلما رأوا أنه عازم على الإسلام .. قالوا : نعطيك مائةَ بعير وترجع إلى أهلك .. وتترك الإسلام ..
قال : أما المال .. فنعم .. فجمعوها له .. فارتد على عقبيه .. وكرَّ راجعاً إلى قومه بكفره ..
واستاق الإبل أمامه .. فرحاً بها مستبشراً .. فلما كاد أن يبلغ دياره .. سقط من على ناقته فانكسرت رقبته ومات ..
( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ ) .